محاكمة العصر..

نور الدين سعيد وبيسى

 

الشرق الاوسط25/4/2001 

بعد انهيار الثورة الكردية عام 1975 عقب توقيع اتفاقية الجزائر بين العراق وإيران، تفرد الجيش العراقي لسحق الكرد، وأعلنت حكومة بغداد مناطق شاسعة من كردستان العراق مناطق محظورة أمنياً، مما كان يعني الحكم بالإعدام رمياً بالرصاص على كل من يوجد في تلك المناطق، فبدأ بتدمير القرى الكردية وترحيل سكانها إلى مجمعات قسرية.

في مطلع شهر ابريل (نيسان) 1980، قامت الحكومة العراقية بإلقاء القبض على أكثر من عشرة آلاف من شبيبة الكرد الفيليين، حيث لا يزالون مفقودين إلى الآن، وتم ترحيل وتسفير عشرات الآلاف من العوائل الكردية الفيلية إلى إيران باعتبارهم تبعية إيرانية، وتمت مصادرة جميع أموالهم المنقولة وغير المنقولة.

وفي أواخر يوليو (تموز) 1983، قام النظام العراقي باعتقال ثمانية آلاف من الكرد البارزانيين (أقارب مسعود البارزاني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني)، وكان معظمهم من الفتيان، حيث اقتادوهم في قافلة من الشاحنات العسكرية إلى جنوب العراق ولا يزال مصيرهم مجهولاً، وجرى تطويق الناجين وأغلبهم من الأطفال والنساء داخل المجمعات القسرية بالأسلاك الشائكة، وتم قطع الماء والكهرباء عنهم وكانوا يعيشون في ظروف قاسية جداً.

وشهد عاما 1987 ـ 1988، انطلاقة أكبر عملية عسكرية عراقية ضد الكرد، وكان يقودها ابن عم صدام، علي حسن المجيد، الذي يلقبه الاكراد بالكيماوي لاستخدامه الأسلحة الكيماوية ضدهم، وخول مجلس قيادة الثورة العراقية علي المجيد الذي كان وزيرا للدفاع، جميع الصلاحيات العسكرية والأمنية من أجل تنفيذ تلك العملية، والتي أطلق عليها النظام (عمليات الانفال البطولية)، حيث كانت تقرأ قبل كل بيان عسكري خاص بتلك العمليات آيات من سورة الانفال! وفسرت الحكومة العراقية الانفال بأن الجيش العراقي له الحق في استباحة دم الكرد والاستيلاء على أموالهم وأملاكهم لأنهم كفار مارقون عن الدين الإسلامي، وهكذا التهمت عمليات الانفال التي تمت على ثلاث مراحل اكثر من مائة واثنين وثمانين ألفا من الكرد تم دفنهم في الصحراء جنوب العراق، حيث أعدمتهم فرق الاعدام داخل الحفر ذاتها التي استخدمت كمقابر لهم، كما روى ذلك قلة قليلة من الناجين.

ورغم أنه ليس هناك رقم دقيق لعدد الضحايا، إلا أن الرقم لا يقل بأي حال من الأحوال عن مائة ألف، حيث اعترف علي حسن المجيد بهذا الرقم خلال إحدى جلسات المفاوضات الكردية ـ العراقية عام 1991، حينما ذكر المندوبون الكرد بأن عدد المفقودين في تلك العمليات 182 ألفا، فاستشاط المجيد غضباً وردّ بعنف (ما هذه المبالغة، انهم لا يتعدون المائة ألف)! وأثناء انتفاضة الكرد في مارس (آذار) 1991، تم الاستيلاء على آلاف الأطنان من الوثائق السرية الخاصة بالحكومة العراقية تستعرض فيها بالتفصيل عمليات الانفال، وتم نقل معظمها إلى الولايات المتحدة الأميركية، رغم أن الجيش العراقي بعد عودته المؤقتة إلى المناطق الكردية في أعقاب الهجرة المليونية للاكراد استغل الفرصة لإتلاف وثائق كثيرة متعلقة بالانفال، حيث لم يتسن للكرد حملها معهم.

أخيراً من حقنا أن نتساءل: أليس وجود آلاف الأطنان من الوثائق والأدلة المتعلقة بالانفال التي تم جمعها إلى الآن، وكذلك القبور الجماعية المنتشرة في طول العراق وعرضها، كافيا ليجعل من محاكمة نظام صدام محاكمة العصر؟